القرآن والسنة- أحكام أصولية وضوابط العمل بالأحاديث النبوية

المؤلف: نجيب يماني10.29.2025
القرآن والسنة- أحكام أصولية وضوابط العمل بالأحاديث النبوية

تطفو على السطح العديد من الأحاديث النبوية التي تتنافى مع ما استقر في القرآن الكريم، ذي الثبوت والبيان القاطعين. ومن بين هذه الأحاديث، ما يُروى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: "خَلَقَ اللهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ، فَضَرَبَ كَتِفَه الْيُمْنَى، فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ، كَأَنَّهُمُ الذَّرُّ، وَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُسْرَى، فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَأَنَّهُمُ الْحُمَمُ، فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَمِينِهِ: إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَا أُبَالِي وَقَالَ: لِلَّذِي فِي كَفِّهِ الْيُسْرَى: إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي".

يتعارض هذا الحديث بشكل جلي مع التصوير القرآني لكيفية خلق الإنسان، كما بينها الخالق عز وجل في محكم كتابه: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ". فالآية الكريمة تباين الحديث المذكور في تفاصيل الخلق الرباني للبشر، وتختلف معه كذلك في مسألة الحساب والعقاب، إذ يؤكد القرآن الكريم: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى". بل إن عدل الله يقتضي ألا يعذب قوماً حتى يرسل إليهم رسولاً مبشراً ونذيراً، لتقوم عليهم الحجة. فالقرآن الكريم حسم مشاهد الآخرة وأتى بها مفصلة واضحة، ولا مجال فيها للاجتهاد الذي يصادم النص الصريح.

يثار التساؤل هنا: هل كل حديث نسمعه هو بالضرورة صحيح ويجب علينا العمل بمقتضاه؟ إن النصوص الشرعية، سواء من الكتاب أو السنة، تخضع لأحكام أصول الفقه وقواعده الدقيقة. فهناك أصول الأخذ والرد، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والمخصوص، والمجمل والمبين، فضلاً عن النص والظاهر، والحقيقة والمجاز، والمشتركات اللفظية والمعنوية، ودلالات الاقتضاء وعمومها، ومفاهيم الموافقة والمخالفة، وعبارات النص وإشارته، وصيغ الأوامر والنواهي ودلالاتها المتنوعة على الوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو التحريم، والصوارف التي تحول بين مرتبة وأخرى. هذه الأحكام الأصولية وغيرها هي الأدوات التي يعتمد عليها أهل العلم لاستنباط الأحكام الشرعية من النصوص.

ثم تأتي بعد ذلك مرحلة ترتيب الأدلة، حيث يتم البدء بالأقوى منها سنداً ومتناً. ثم تليها أحكام التعارض وقواعده، وأسس الجمع والتوفيق بين الأدلة المتعارضة إن أمكن ذلك، سعياً لإزالة التناقض الظاهري.

وفي حال استعصى الجمع والتوفيق، تأتي مرحلة الترجيح، حيث يتم اختيار أحد الدليلين بناءً على مرجحات معينة، وذلك لإعماله أو إعمالهما معاً، أو إيقاف أحدهما أو إيقافهما معاً، وفقاً لقواعد الترجيح المعروفة.

وفي نهاية هذه المراحل، تدخل النصوص في حيز أحكام الأولويات الأصولية، وذلك وفقاً للقواعد التي يتبعها كل إمام من أئمة الفقه. فمثلاً، يشتهر عن الإمام مالك أنه يقدم عمل أهل المدينة على خبر الآحاد، فلا يعمل بحديث "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" على الرغم من شهرته وصحته. كما يجيز للأب تزويج البكر البالغ من غير استئذانها، على الرغم من صحة وشهرة حديث "لا تنكح البكر حتى تستأذن".

ويُعرف عن الإمام أبي حنيفة أنه لا يخصص ولا يقيد النصوص القرآنية بخبر الآحاد، ولا يعمل به إذا خالف ما تعم به البلوى في حياة الناس، وذلك سداً للذرائع وحفاظاً على يسر الشريعة.

ويشتهر عن الإمام الشافعي أنه يعمل بمراسيل ابن المسيب بشروط معينة، دون غيره من التابعين، خلافاً لبقية الأئمة الذين يأخذون بمراسيل كبار التابعين بشروطهم، مع أن المرسل في اصطلاح المحدثين يعتبر حديثاً ضعيفاً لافتقاره إلى سلسلة السند المتصلة.

والخلاصة، أنه لا يجوز الاعتماد على أي نص شرعي في استنباط الأحكام إلا بعد المرور بهذه المراحل المذكورة، واحدة تلو الأخرى، وفق ترتيب معين متفق عليه بين الفقهاء. فالغاية هي التأكد من صلاحية النص للعمل به، بصرف النظر عن كونه صحيحاً في البخاري أو مسلم، أو متفقاً عليه بينهما، أو مما تلقته الأمة بالرضى والقبول.

فصحة الحديث بحد ذاتها لا تستلزم وجوب العمل به، بل يجب أن يضاف إلى ذلك ما تقدم من الأحكام الأصولية. ولذلك قال ابن تيمية: "ما في الكتب أنفع من صحيح البخاري، لكن هو وحده لا يقوم بأصول العلم".

إذ لا بد من معرفة أحاديث أخرى، وكلام أهل الفقه، فكم من حديث صحيح لا مرية في صحته، وقد وصل إلينا عبر أقوى الأسانيد، ويتفق مع عمومات العقل والنقل في المتن، ومع ذلك ذهب أئمة الفقه إلى العمل بخلاف مقتضاه. وكتب الفقه زاخرة بمثل هذه الأمثلة. فمثلاً، حديث "إنما الأعمال بالنيات" وهو في الصحيحين، بل بدأ البخاري به كتابه الجامع الصحيح، ومع ذلك لم يعمل به أبو حنيفة في وجوب النية في الوضوء أو الغسل في الطهارة ورفع الحدث. والإمام مالك لا يعمل بحديث غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب، على الرغم من صحته وشهرته في صحيح مسلم ومسند أحمد وابن ماجة والدارمي وأبي داود والنسائي.

وحديث اليمانية في وجوب الزكاة في حلي الذهب لا يعمل به الإمام أحمد ولا الشافعي ولا مالك على شهرته وصحته على شروط البخاري.

وصحة حديث "من أكل أو شرب ناسياً فلا شيء عليه فكأنما أطعمه الله وأسقاه"

لم يأخذ به الإمام مالك، فأوجب على من فعل ذلك القضاء، رغم صحة الحديث وشهرته. وحديث "الولد للفراش" لم يعمل به أحمد ولا مالك ولا الشافعي في لحوق النسب رغم صحته في الصحيحين ومسند أحمد والترمذي والنسائي.

بل لم يأخذ الأئمة الأربعة في وقوع الطلاق الثلاث واحدة رغم صحته في مسلم والمسند.

فالشاهد أن صحة الحديث بمفردها لا توجب العمل به، فليس كل حديث صحيح يجب العمل به، وذلك لما تقدم من قواعد الإعمال أو الإيقاف للنصوص المتعارضة، وفق ما ذكره أهل العلم، ووفق الأولويات الأصولية المتبعة لدى كل إمام من أئمة الفقه.

كم هي كثيرة الأحاديث التي نسمعها والتي تتعارض مع ما جاء في القرآن الكريم، وتخالف منطق العقل السليم. وللحديث بقية..

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة